كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أجيب: بأنّ هذا يحصل به التخويف لكل العصاة، ثم إنّ الله تعالى صبر نبيه صلى الله عليه وسلم على ما يناله من جلافتهم وعماهم عن السبيل الذي هدى إليه الدليل بقوله تعالى: {ولا تحزن عليهم} أي: في عدم إيمانهم فإنما عليك البلاغ {ولا تكن في ضيق مما يمكرون} أي: لا تهتم بمكرهم عليك فأنا ناصرك عليهم وجاعل تدميرهم في تدبيرهم كطغاة قوم صالح، تنبيه: الضيق الحرج يقال ضاق الشيء ضيقًا وضيقًا بالفتح والكسر، ولهذا قرأ ابن كثير بكسر الضاد، والباقون بالفتح، ولما أشار تعالى إلى أنهم لم يبقوا في المبالغة في التكذيب بالساعة وجهًا أشار تعالى إلى أنهم في التكذيب بالوعيد بالساعة وغيرها من عذاب الله أشدّ مبالغة بقوله تعالى: {ويقولون} بالمضارع المؤذن بالتجدّد كل حين والاستمرار {متى هذا الوعد} أي: العذاب والبعث والمجازاة الموعود بها وسموه وعدًا إظهارًا لمجيئه تهكمًا به {إن كنتم} أي: أنت ومن تبعك {صادقين} فيه، ثم أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم بقوله تعالى: {قل} لهم {عسى أن يكون ردف لكم} أي: تبعكم وردفكم ولحقكم، فاللام مزيدة على هذا للتأكيد كالباء في قوله: {ولا تلقوا بأيديكم} (البقرة).
ويصح أن يكون تضمن ردف معنى فعل فتعدى باللام نحو دنا وقرب وأردف وبهذا فسره ابن عباس، وقد عدّي بمن في قول القائل:
فلما ردفنا من عمير وصحبه ** تولوا سراعًا والمنية تعنق

يعني دنونا من عمير {بعض الذي تستعجلون} أي: فحصل لهم القتل ببدر وباقي العذاب يأتي بعد الموت، تنبيه: عسى ولعلّ وسوف في مواعيد الملوك كالجزم بها، وإنما يطلقون إظهارًا لوقارهم وإشعارًا بأنّ الرمز منهم كالتصريح من غيرهم وعليه جرى وعد الله ووعيد، ولما كان التقدير فإنّ ربك لا يعجل على هذا العاصي بالانتقام مع تمام قدرته عطف عليه.
{وإن ربك} أي: المحسن إليك بالحلم على أمّتك {لذو فضل} أي: تفضل وإنعام {على الناس} أي: كافة {ولكن أكثرهم لا يشكرون} أي: لا يعرفون حق النعمة له ولا يشكرونه بل يستعجلون بجهلهم العذاب، قال ابن عادل: وهذه الآية تبطل قول من قال لا نعمة لله على كافر.
{وإن ربك} أي: والحال أنه {ليعلم ما تكنّ} أي: تضمر وتسرّ وتخفي {صدورهم} أي: الناس كلهم فضلًا عن قومك {وما يعلنون} أي: يظهرون من عداوتك وغيرها فيجازيهم على ذلك.
{وما من غائبة في السماء والأرض} أي: في أيّ موضع كان منهما، وأفردهما دلالة على إرادة الجنس الشامل لكل فرد تنبيه: في هذه التاء قولان: أحدهما: أنها للمبالغة كراوية وعلاّمة في قولهم ويل للشاعر من راوية السوء، كأنه تعالى قال وما من شيء شديد الغيبوبة والخفاء إلا وقد علمه الله تعالى، والثاني: أنها كالتاء الداخلة على المصادر نحو العاقبة والعافية، قال الزمخشريّ: ونظيرها الذبيحة والنطيحة والرمية في أنها أسماء غير صفات {إلا في كتاب} هو اللوح المحفوظ كتب فيه ذلك قبل إيجاده لأنه لا يكون شيء إلا بعلمه وتقديره {مبين} أي: ظاهر لمن ينظر فيه من الملائكة، ولما تمم تعالى الكلام في إثبات المبدأ والمعاد ذكر بعده ما يتعلق بالنبوّة بقوله تعالى: {إنّ هذا القرآن} أي: الآتي به هذا النبيّ الأميّ الذي لم يعرف قبله علمًا ولا خالط عالمًا {يقص على بني إسرائيل} أي: الموجودين في زمان نبينا صلى الله عليه وَسَلَّمَ: {أكثر الذي هم فيه يختلفون} أي: من أمر الدين وإن بالغوا في كتمه كقصة الزاني المحصن في إخفائهم أنّ حدّه الرجم، وقصة عزيز والمسيح، وإخراج النبي صلى الله عليه وسلم ذلك مما في توراتهم فصح بحقيقته على لسان من لم يلمّ بعلم قط نبوّته صلى الله عليه وسلم لأنّ ذلك لا يكون إلا من عند الله، ثم وصف تعالى فضل هذا القرآن بقوله تعالى: {وإنه لهدى} أي: من الضلالة لما فيه من الدلائل على التوحيد والحشر والنشر والنبوّة وشرح صفات الله تعالى {ورحمة} أي: نعمة وإكرام {للمؤمنين} أي: الذين طبعهم على الإيمان فهو صفة لهم راسخة كما أنه للكافرين وقر في آذانهم وعمى في قلوبهم، ولما ذكر تعالى دليل فضله أتبعه دليل عدله بقوله تعالى: {إن ربك} أي: المحسن إليك بما لم يصل إليه أحد {يقضي بينهم} أي: بين جميع المختلفين {بحكمه} أي: الذي هو أعدل حكم وأتقنه وأنفذه، فإن قيل: القضاء والحكم شيء واحد فقوله تعالى: {يقضي بينهم بحكمه} أي: بما يحكم به كقوله يقضي بقضائه ويحكم بحكمه؟
أجيب: بأنّ معنى قوله تعالى: {بحكمه} أي: بما يحكم به وهو عدله لأنه لا يقضي إلا بالعدل فسمى المحكوم به حكمًا أو أراد بحكمته {وهو} أي: والحال أنه هو {العزيز} أي: فلا يردّ له أمر {العليم} فلا يخفى عليه سرّ ولا جهر، فلما ثبت له تعالى العلم والحكمة والعظمة والقدرة تسبب عن ذلك قوله تعالى: {فتوكل على الله} أي: ثق به لتدع الأمور كلها إليه وتستريح من تحمل المشاق وثوقًا بنصره، ثم علل ذلك بقوله تعالى: {إنك على الحق المبين} أي: البين في نفسه الموضح لغيره فصاحب الحق حقيق بالوثوق بحفظ الله تعالى ونصره وقوله تعالى: {إنك لا تسمع الموتى} تعليل آخر للأمر بالتوكل من حيث إنه يقطع طمعه من معاضدتهم، وإنما شبهوا بالموتى لعدم انتفاعهم باستماع ما يتلى عليهم كما شبهوا بالصم في قوله تعالى: {ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين} أي: معرضين، فإن قيل: ما معنى قوله تعالى: {ولوا مدبرين} أجيب: بأنه تأكيد الحال الأصم لأنه إذا تباعد عن محل الداعي بأن تولى عنه مدبرًا كان أبعد عن إدراك صوته، وقرأ ابن كثير ولا يسمع بالياء التحتية المفتوحة وفتح الميم الصم برفع الميم، والباقون بالتاء الفوقية مضمومة وكسر الميم الصم بالنصب، وسهل نافع وابن كثير وأبو عمرو الهمزة الثانية من الدعاء إذًا كالياء مع تحقيق الأولى، والباقون بتحقيقهما وهم على مراتبهم في المدّ، ثم قطع طمعه في إيمانهم بقوله تعالى: {وما أنت بهادي العمي} أي: في أبصارهم وبصائرهم مزيلًا لهم وناقلًا ومبعدًا {عن ضلالتهم} أي: عن الطريق بحيث تحفظهم عن أن يزلوا عنها أصلًا فإنّ هذا لا يقدر عليه إلا الحيّ القيوم، وقرأ حمزة تهدي بتاء فوقيه وسكون الهاء والعمي بنصب الياء، والباقون بالباء الموحدة مكسورة وفتح الهاء بعدها ألف والعمي بكسر الياء، ولما كان هذا ربما أوقف عن دعائهم رجاه في انقيادهم وارعوائهم بقوله تعالى: {إن} أي: ما {تسمع} أي: سماع انتفاع على وجه الكمال في كل حال {إلا من يؤمن} أي: من علمنا أنه يصدّق {بآياتنا} بأن جعلنا فيه قابلية السمع، ثم تسبب عنه قوله دليلًا على إيمانه {فهم مسلمون} أي: مخلصون في غاية الطواعية لك كما في قوله تعالى: {بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن} أي: جعله سالمًا خالصًا، ثم ذكر تعالى ما يوعدون مما تقدّم استعجالهم له استهزاء بقوله تعالى: {وإذا وقع القول عليهم} أي: مضمون القول وهو ما وعدوا به من قيام الساعة والعذاب، ووقوعه حصوله، أو أطلق المصدر على المفعول أي: المقول {أخرجنا} أي: بما لنا من العظمة {لهم} حين مشارفة العذاب والساعة وظهور أشراطها حين لا تنفع التوبة {دابة من الأرض} وهي الجساسة جاء في الحديث: «إن طولها ستون ذراعًا لا يدركها طالب ولا يفوتها هارب» وروي: «أنّ لها أربع قوائم وزغبًا وهو شعر أصفر على ريش الفرخ وريشًا وجناحين».
وعن ابن جريج في وصفها فقال: رأسها رأس الثور، وعينها عين الخنزير، وأذنها أذن فيل، وقرنها قرن أيل وعنقها عنق نعامة، وصدرها صدر أسد، ولونها لون نمر، وخاصرتها خاصرة هرّ، وذنبها ذنب كبش، وخفها خف بعير وما بين المفصلين اثنا عشر ذراعًا بذراع آدم عليه السلام، وروي أنها لا تخرج إلا رأسها ورأسها يبلغ عنان السماء أي: يبلغ السحاب، وعن أبي هريرة فيها من كل لون وما بين قرنيها فرسخ للرّاكب، وعن الحسن لا يتم خروجها إلا بعد ثلاثة أيام.
وعن علي رضي الله تعالى عنه: أنها تخرج ثلاثة أيام والناس ينظرون فلا يخرج إلا ثلثها، وروي أنه صلى الله عليه وسلم سئل من أين تخرج الدابة فقال: «من أعظم المساجد حرمة وأكرمها على الله فما يهولهم إلا خروجها من بين الركن» حذاء دار بني مخزوم عن يمين الخارج من المسجد فقوم يهربون وقوم: يقفون نظارًا، وقيل تخرج من الصفا، ولما كان التعبير بالدابة يفهم أنها كالحيوانات العجم لا كلام لها قال: {تكلمهم} أي: بالعربية كما قاله مقاتل بكلام يفهمونه بلسان طلق ذلق فتقول: {أنّ الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون} أي: أنّ الناس كانوا لا يوقنون بخروجي لأنّ خروجها من الآيات، وتقول ألا لعنة الله على الظالمين، وعن السدي: تكلمهم ببطلان الأديان كلها سوى دين الإسلام.
وعن ابن عمر: تستقبل المغرب فتصرخ صرخة تنفذه ثم تستقبل المشرق ثم الشأم ثم اليمن فتفعل مثل ذلك، وروي أنها تخرج من أجياد، روي بينما عيسى عليه السلام يطوف بالبيت ومعه المسلمون إذ تضطرب الأرض تحتهم تحرك القنديل وينشق الصفا مما يلي المسعى فتخرج الدابة من الصفا ومعها عصا موسى وخاتم سليمان فتضرب المؤمن في مسجده أو فيما بين عينيه بعصا موسى فتنكت نكتة بيضاء فتفشو تلك النكتة في وجهه حتى يضيء لها وجهه أو تترك وجهه كأنه كوكب دريّ وتكتب بين عينيه مؤمن، وتنكت الكافر بالخاتم في أنفه فتفشو النكتة حتى يسودّ لها وجهه وتكتب بين عينيه كافر، وروي فتجلو وجه المؤمن بالعصا وتخطم أنف الكافر بالخاتم ثم تقول لهم يا فلان أنت من أهل الجنة ويا فلان أنت من أهل النار.
وعن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بادروا بالأعمال ستًا طلوع الشمس من مغربها والدجال والدخان والدابة وخاصة أحدكم وأمر العامة» وقال صلى الله عليه وسلم: «إنّ أوّل الآيات خروجًا طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة على الناس ضحى وأيهما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على أثرها».
وقال صلى الله عليه وسلم: «للدّابة ثلاث خرجات من الدهر فتخرج خروجًا بأقصى اليمن فيفشو ذكرها في البادية ولا يدخل ذكرها القرية يعني مكة ثم تكمن زمانًا طويلًا ثم تخرج خرجة أخرى قريبًا من مكة فيفشو ذكرها بالبادية ويدخل ذكرها القرية يعني مكة ثم بينا الناس يومًا في أعظم المساجد على الله حرمة وأكرمها على الله عز وجلّ يعني المسجد الحرام لم يرعهم إلا وهي في ناحية المسجد تدنو وتدنو، قال الراوي ما بين الركن الأسود إلى باب بني مخزوم عن يمين الخارج من المسجد في وسط من ذلك فارفض الناس عنها وثبتت لها عصابة عرفوا أنهم لم يعجزوا الله فخرجت عليهم تنفض رأسها من التراب فمرت فجلت عن وجوههم حتى تركتها كأنها الكواكب الدرية ثم ولت في الأرض لا يدركها طالب ولا يعجزها هارب حتى إنّ الرجل ليقوم فيتعوذ منها بالصلاة فتأتيه من خلفه فتقول يا فلان الآن تصلي، فيقبل عليها بوجهه فتسمه في وجهه فيتجاور الناس في ديارهم ويصطحبون في أسفارهم ويشتركون في الأموال ويعرف الكافر من المؤمن فيقال للمؤمن يا مؤمن وللكافر يا كافر».
وعن عليّ رضي الله تعالى عنه أنه قال ليست بدابة لها ذنب ولكن لها لحية يشير إلى أنها رجل، والأكثرون على أنها دابة، وعن ابن عباس أنه قرع الصفا بعصاه وهو محرم وقال إنّ الدابة لتسمع قرع عصاي هذه، وعن أبي هريرة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بئس الشعب شعب أجياد مرّتين أو ثلاثًا قيل ولم ذاك يا رسول الله قال تخرج منه الدابة فتصرخ ثلاث صرخات يسمعها من بين الخافقين» وقال وهب: وجهها وجه الرجل وسائر خلقها خلق الطير فتخبر من يراها أنّ أهل مكة كانوا بمحمد والقرآن لا يوقنون، وقرأ الكوفيون بفتح الهمزة من أنّ على تقدير الباء أي: بأنّ الناس الخ، والباقون بكسرها على الاستئناف.
{ويوم نحشر} أي: الناس على وجه الإكراه، قال أبو حيان الحشر الجمع على عنف {من كل أمّة} أي: قرن {فوجًا} أي: جماعة {ممن يكذب بآياتنا} أي: وهم رؤساؤهم المتبوعون {فهم يوزعون} أي: يجمعون يرد آخرهم إلى أوّلهم وأطرافهم على أوساطهم ليتلاحقوا ولا يشذ منهم أحد ولا يزالون كذلك.
{حتى إذا جاءوا} إلى مكان الحساب {قال} أي: الله تعالى لهم {أكذبتم} أي: أنبيائي {بآياتي} التي جاءوا بها {و} الحال أنكم {لم تحيطوا بها} أي: من جهة تكذيبكم {علمًا} أي: من غير فكر ولا نظر يؤدّي إلى الإحاطة بما في معانيها وما أظهرت لأجله حتى تعلموا ما تستحقه وما يليق بها بدليل الأمر به فيه، وأم في قوله تعالى: {أم ماذا} منقطعة وتقدّم حكمها، وماذا يجوز أن يكون برمته استفهامًا منصوبًا بتعلمون الواقع خبرًا عن كنتم، وأن تكون ما استفهامية مبتدأ وذا موصول خبره والصلة {كنتم تعلمون}.